رياض الصالح الحسين .. الحياة والموت

رياض الصالح الحسين .. الحياة والموت

من ظلمة الليل تنسل أول خيوط الفجر، ومن اغترابه في وطنه، ومن علته ووحدته، وُلِد لنا رياض الصالح الحسين مع أربع دواوين من الشعر، جاء يتصف بالطيبة المطلقة وباللغة التي تثير الدهشة، منسوجة من عمق الألم والحب، قادمة من أساطير الأزمنة الغابرة.
يترك موت الشاعر مبكرًا باكورة أعماله ناقصة، لكن رياض ترك ما يمكن أن يخلد أثره ويجعله من أبرز شعراء النثر في سورية. حاصره الرحيل في دمشق، وهو مغيب من أصدقائه في الساحة الأدبية، وحيدًا في غرفته في الديوانية، ليستريح من العناء المتواصل، فتفر الروح من جسدها، ويبقى اسمه مخلدًا في تاريخ الشعر العربي الحر.

“الحب..
شهادة ولادة دائمة
نحملها برأس مرفوع لنخترق شارع المذب،حة”

مولد ونشأة رياض الصالح الحسين:

وُلِد الشاعر رياض الصالح الحسين في 10 مارس عام 1954 في مدينة درعا جنوب سورية. والده “صالح حسين الصالح” من بلدة مارع، وأمه “سامية ليلى”. درس حتى الصف السابع وترك دراسته بسبب مرض في المجاري البولية الذي تطور ليصبح قصورًا كلويًا حادًا، مما دفعه لإجراء عملية جراحية في دمشق في مشفى “المواساة”، فقد على إثرها القدرة على السمع والنطق وهو في الثالثة عشرة من عمره. ليقوم بعدها بعملية أخرى في بلغاريا لتخفيف ما خلفته العملية الأولى.

دراسة وعمل رياض الصالح الحسين:

لم يكمل تعليمه، بل غادر إلى حلب ليعمل في شركة النسيج بحي التل، ويتعرف بعدها على الشاعر “علي كتخدا”، وانتقلا معًا للعمل في مؤسسة الأمالي التابعة لاتحاد طلبة الجامعة، وقد ربطته صداقة بالشاعر بشير البكر الذي أدخله في الوسط الثقافي بحلب وعرفه على أغلب أدباء المدينة.

بدأ بنشر قصائده في مجلة (جيل الثورة) منذ عام 1976 بعائد مادي بسيط.

سرعان ما غادر إلى دمشق سنة 1978 ليعمل مع أخيه حسن عند أحد الخياطين، ويسكن في حي الديوانية، وينخرط مجددا في الأجواء الثقافية في دمشق، حيث اعتقل لمشاركته في نشرة “الكراس الأدبي” مع أصدقائه، وقد تعرض لمزيد من التحقيق للتأكد من صممه وتعثر نطقه.
عمل بمكتب الدراسات الفلسطينية حتى وفاته عام 1982 عن عمر يناهز 28 سنة.

مؤلفات رياض الصالح الحسين الشعرية:

صدر ديوانه الأول بعنوان “خراب الدورة الدموية”، وكان أول مجموعة شعرية له في دمشق عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ثم نشر عام 1979 مجموعته الثانية “أساطير يومية”. في عام 1980 نشر مجموعته الثالثة “بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس” وآخرها كان “وعل في الغابة” عام 1983، صدرت بعد وفاته.

“لا تسألوا الزمن عن الذكريات
لا تسألوا الصعاليك عن رطوبة الأرصفة
لا تسألوا التوابيت عن رائحة الموتى
لا تسألوا الق،تلة عن رائحة الدم
لا تسألوا سمر عن قلبي”

التجربة الشعرية والعاطفية في شعر رياض الصالح الحسين

كانت أول علاقة له مع فتاة عراقية يُقال إنه تعرف عليها في بلغاريا، رغم أن منذر المصري لم يأتِ على ذكرها في الأعمال الكاملة، وكان يشير إليها في قصائده بالآنسة “س” أو يخاطبها باسمها سمر.

أما المرأة الثانية في حياة رياض الصالح الحسين فقد كانت “هيفاء أحمد” التي خطبها رياض بعد علاقة حب طويلة، لكنها اختارت قطع علاقتها به بعد سفره إلى اللاذقية مع الفنانة التشكيلية (هالة الفيصل).

مما جعله يدخل في نوبة اكتئاب امتنع خلالها عن النوم لأيام، واختار أن يظل وحيدًا، يشرب المحرمات، مما أدى إلى انهيار جسمه بالكامل.
ولم يغادر غرفته حتى فقده “مهدي محمد علي” لغيابه عن المقهى الذي كان يرتاده، ووجده هو و”هاشم شفيق” في غرفته كما ذكر منذر المصري في أعماله الكاملة:
“قرر أن يذهب هو و(هاشم شفيق) إلى غرفته، ويستفقده ليجده مكوماً فوق سريره على شفير الموت، يرتجف ويهلوس ويطلب الماء”.

الفصل الأخير من حياة رياض الصالح الحسين:

نُقل إلى مشفى المواساة في دمشق، وقضى ليلته غائبًا عن الوعي، ليغيب إلى الأبد في مساء اليوم التالي بفشل حاد في الكلى.
رياض لم يغيبه المرض، ولكن غيبه الحب والحزن والألم. هل كان يشبه كافكا في عزلته وحزنه أم يشبه السياب في ارتباطه بالموت وعدم وجود من يستوعبه! هو نفسه الذي كتب قبل:
“غداً من الممكن أن ننت،حر.. الآن علينا أن نحب”.

وحين انتهى الحب، ألقى بنفسه في نهر الموت، فكان مصيرًا حتميًا، ونقطة نهاية مبكرة لشاعر وُلِد في سنوات قصيرة وابتلعه الغياب تاركًا وراءه للأدب السوري أسطورة خالدة في الحب والموت والحياة.

الإهداء الأخير من رياض الصالح الحسين:

من آخر ديوان شعري له  ” وعل في الغابة” و جده صديقه مهدي محمد علي في أدراج مكتبه، كان الإهداء الأخير لها كعربون محبة صادقة  ‘إلى هيفاء أحمد”، ومضى رياض الصالح الحسين نحو غيابه الأبدي خفيف الظل صامتًا دون أن تتحفه دمشق وحبيبته بوداع يليق به إلى درعا.
ليرقد في مثواه الأخير، كان بعيدًا عن عائلته، وظلت حياته مجهولة حتى لدى أصدقائه. وقد ذكر ذلك “منذر المصري” في الأعمال الكاملة لرياض الصالح حسين التي نشرها عام 2012 بعد انطلاق الثورة السورية. مات وبقي جزء من الصورة مفقودًا، لا أحد يمكن أن يفسره.

عاش رياض تجربة حياة قاسية من المرض إلى الهجر والاعتقال والوحدة، ووعوده بالعلاج التي كانت تتبخر في كل مرة حتى انتهى إلى موت كان يتغنى به كما الحياة.

“كنجمة في السماء
كوعل في الغابة
أمامي الكثير لأعطيه
وخلفي الكثير للمقابر”

__________ الكاتبة: مارية الزروالي _________

المصادر
منذر المصري. الأعمال الكاملة لرياض الصالح حسين. دار النشر، 2012
ديوان “خراب الدورة الدموية” رياض الصالح حسين
“وعل في الغابة” رياض الصالح حسين
“حكاية الشاعر رياض الصالح الحسين” هاشم شفيق 2015.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد