حياة السلف الصالح في شهر رمضان
رمضان شهر يستحب الإكثار فيه من العبادات، وعلى وجه الخصوص الارتباط بقيام الليل وكثرة تلاوة القرآن، والإكثار من الوقوف بين يدي الله عز وجل، وهو من بين أسباب الرفعة في الدنيا والآخرة، وقد كان السلف يقومون الليل كله، ومنهم من كان يقرأ القرآن فيختمه في كل ثلاث ليال، فالصيام والقرآن شفيعان لصاحبهما، وهما أيضا حجة وخصيم لصاحبهما، وذالك مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن القرآن: (القرآن حجة لك، أو عليك) فالقرآن شفيع لمن منعه النوم ليلا وشفيع لمن أحسن تلاوته وتدبره بقلب خاشع وعمل به في نهاره، وخصيم لمن قرأ فلم يعمل به شيئا، ولذالك قال النبي هو حجة لك أو عليك، وقد لازم الصحابة والسلف الصالح تلاوة القرآن وقيام الليل في رمضان بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذالك مما نقل عنهم، أنهم يبيتون ليلهم منشغلين بالصلاة وتدبر القرآن.
حال السلف في استقبال رمضان:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبشر صحبه قائلا: (قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم).
وكان السلف والصالحين من بعد النبي والصحابة يستبشرون بشهر الرحمة والمغفرة، ويدعون الله ستة أشهر قبل وصوله أن يبلغهم إياه، وكيف لا يفرح المؤمن بقدوم شهر فيه فضائل لا حد لها، وفيه يقول النبي أن الشياطين تغل وتفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار، فهو شهر يكثر فيه الخير والبركة، وتكثر فيه المغفرة وتعتق الرقاب من النار، وقد كان الصحابة يدعون الله أن يبلغهم رمضان قبل وقته بستة أشهر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يكثر الصيام في شعبان استعدادا لقدوم رمضان، فرمضان هو خير الشهور كلها.
حال السلف في رمضان مع القرآن:
رمضان له ارتباط وثيق بالقرآن وفيه قال الله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}، وقد كان السلف ينقطعون لقراءته والانشغال بتدبره والخشوع بين يدي الله، فالليل تهدأ فيه الحياة وتنقطع المشاغل، ويهدأ القلب ويكون قادرا على تدبر آيات الله تعالى، والشعور بلذة المناجاة، والقرب من الله، والليل فيه طمأنينة غالبة في العبادة فلا يعرض لقائم الليل ومتدبر القرآن شيء يشغله عن عبادته، ومن أحوال السلف والأئمة مع القرآن، ما يقتدي به قارئ القرآن ليلا، فقد روي أن الشافعي في رمضان كان يختم ستون ختمة في غير الصلاة، وأن أبي حنيفة كان مثله فكانوا يلازمون كتاب الله في رمضان.
وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.(1)
وورد عن ابن رجب الحنبلي أن مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالس أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، ويلازمه وبذلك فالقرآن كان شغل السلف الشاغل في رمضان، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على قراءة القرآن وانشغل به عما دونه.
وروي أن عائشة رضي الله عنها كانت تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت.
وارتباط السلف الصالح بالقرآن إنما هو لعظم شأن القرآن في رمضان، وإدراك مكانته، فجبريل عليه السلام يعارض به الرسول صلى الله عليه وسلم كل مرة في السنة وكان ذلك في رمضان.
ومتبع السلف مقتفي الأثر يجب أن يعمل بما يقرأ ليلا في نهاره، وذلك من أثر التدبر الظاهر على الإنسان، لا أن يستحل ما حرم الله ويترك مجالس العلم نهارا، ثم يجلس للقرآن فيكون حجة عليه لا له، بل وجب الاتباع في ترك المحرمات وما نهي عنه، والصوم بقلب محتسب متجدد النية، وأن يسير على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله في رمضان، وذلك أصل ما اهتدى به السلف الصالح.
حال السلف في قيام الليل:
كان السلف يعملون لرمضان بيقين أن رمضان وقيامه مكفر ومطهر لذنوب الصغيرة والكبيرة، ويتحرون ليلة القدر في العشر الأواخر، ومن بينها ليلة ثلاث وعشرين وليلة الحادي والعشرين، ويضاعفون فيها العمل لطلب أجرها، والمجتهد في رمضان يرجع يوم الفطر مغفورا له بإذن الله، جزاء من الله للمجتهدين العاملين طوال الشهر، الذين أطاعوا الله فيما أمرهم، وكان السلف يخافون عدم قبول العمل، فمنهم من يرجع حزينا يوم العيد فيقال هذا يوم سرور، فيقول أنا عبد أمرني مولاي أن أعمل، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟
وعن فضالة بن عبيد، قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأن الله يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين).
فذلك كان خوف المحسنين، الذين تقربوا إلى ربهم بالعبادة طوال شهر رمضان، فالفائز من تقرب من مولاه وعمل بما أمر، وأطاع واجتنب ما نهي عنه، فيفرح المؤمن يوم عيده وكله يقين في خالقه أنه قد غفر له، وأن أعماله لا ترد عليه، ولذلك رمضان فيه تتجدد النية ويخلص المسلم في أعماله لله، إخلاصا لا يخالطه رياء، فالسلف والصحابة لم يأمنوا أنفسهم، وقد روي عن علي رضي الله عنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟ أيها المقبول هنيئاً لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك!.
وكانوا يقومون الليل فيقرأون القرآن في صلاتهم ويطيلونها، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القراءة في قيام رمضان أكثر من غيره، وإذا مر بآية في صلاته فيها تخويف يستعيذ، وإذا مر بآية فيها رجاء ورحمة إلا سأل الله.
ويقول الحسن البصري في صلاة الليل: لم أجد شيئا من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل.
ففضلها عظيم عند الله تعالى، رغم أن فيها شدة، ولكن إنما هي أيام معدودة والفائز من اغتنمها وصبر حتى يجد الجزاء على قدر ما عمل.
ختاما هدي السلف مما يهتدى به ويدفع المرء ليتأمل حاله، ويحاول جاهدا أن يبلغ منازلهم، ويكون القصد من صيامه تهذيب نفسه، ويكثر من العطاء، ويدع اللغو، فيصوم عن النميمة والكذب، ويصوم سمعه وبصره، ويخلص لله عز وجل في الصلاة وفي تلاوة القرآن، وفي الصدقات وإفطار الصائم، ويبتعد عن الأشياء التي تشغله وتهدر وقته، ومنها في زمننا المسلسلات والبرامج الترفيهية، ويجعل عبادته مكتملة خالصة لله عز وجل، وأن يدرك أن كل ساعة في رمضان تستحق أن ينشغل فيها بما هو خير له لدنياه وآخرته، فلا ينشغل بالتجهيز والتهيئ المبالغ لعيد الفطر فيغفل عن أيام العشر، وإنما ينظر لأي حال ستكون عليها صحائفه حين يفطر، حتى يكون ممن صام قياما واحتسابا.
المصادر
ــــــــــــــــــ
1ـابن رجب الحنبلي، لطائف المعارف، ص 317، دار بن كثير، بيروت دمشق.