الإمام الشافعي.. ناصر الحديث
من هو الإمام الشافعي؟
محمد بن إدريس الشافعي ناصر الحديث متتبع الأثر، على منهج أهل السنة، وهو صاحب المذهب الشافعي ومؤسس أصول الفقه.
حفظ الإمام الشافعي الموطأ وهو في العاشرة من عمره، وأذن له بالإفتاء والإمامة وهو ابن نيف وعشرين سنة، كما حفظ القرآن الكريم وكان أديبًا، شاعرًا فصيحًا، فقيهًا، عالمًا باللغة، ورِعًا كثير العبادة، يختم القرآن كل ليلة فداع صيته وكثر عليه الطلبة.
قال له الإمام مالك: “يا محمد! إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية، فإني أرى أنه سيكون لك شأن كبير إن شاء الله عز وجل.” فأصبح فقيهًا للأمة ومؤسسًا لأحد مذاهبها الأربعة.
نسب الإمام الشافعي:
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، ناصر الحديث فقيه الملة، أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي الغزي المولد، نسيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب، والشافعي يجتمع بنسبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
مولد الإمام الشافعي ونشأته:
ولد الإمام الشافعي في مدينة غ،زة، وهي مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، تقع جنوب فلسطين عسقلان، وفيها مات هاشم بن مناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها قبره.
نشأ الإمام الشافعي يتيم الأب، حيث توفي والده شابًا، فبقي في كنف أمه، التي خافت عليه من الضيعة، فحولت به إلى مكة وهو ابن عامين.
قال ابن أبي حاتم سمعت عمرو بن سواد: قال لي الشافعي ولدت بعسقلان، فلما اتى علي سنتان، حملتني أمي إلى مكة.(1)
وفيها تعلم الرمي والعربية والشعر، وفاق أقرانه فيها وطلب العلم.
في وصف الإمام الشافعي:
ومن صفاته أنه كان طويلًا معتدل الهامة، أسمرا، طويل العنق، حسن الصوت والسمت يخضب لحيته بالحناء، وكان أفصح الناس، عذب المنطق، حسن الوجه، فرط الذكاء، لا يلحن، سريع الحفظ، ذو قريحة وهمة عظيمة. كان رامياً يصيب من العشر عشرة، وعالمًا بالأنساب والفراسة والطب.
كَرَم الإمام الشافعي
كام الامام الشافعي كريما ينفق أمواله، فمرة قدم من اليمن ومعه عشرون ألف دينار إلى مكة، فضربت له خيمة خارج مكة، فما دخل مكة حتى كان قد فرق كل الدنانير على من حضره وعلى أصحابه، وكان موسوعيًا في علمه، جمع بين اللغة والحديث والفقه وعلوم أخرى، فلم يأخذ شيئًا ويترك شيئًا. فعلماء السلف اشتغلوا بعلوم كثيرة ولم يصرفهم علم عن علم.
أحمد بن حنبل ووصفه للإمام الشافعي:
يقول عبد الله بن أحمد: “جاء الشافعي إلى أبي زائرًا وهو عليل يعوده – الشافعي يعود أحمد مع أن أحمد من تلاميذ الشافعي، لكن الشافعي رحمه الله كان يعود تلاميذه – فوثب أبي إليه، فقبل ما بين عينيه، وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه، مع أن أحمد كان مريضًا فلما قام ليركب، راح أبي فأخذ بركابه ومشى معه.”
حرص الإمام أحمد على مجلس الإمام الشافعي
وكان أحمد رحمه الله حريصًا على مجلس الشافعي كثيرًا، وعلى الجلوس إليه، وكان ربما يفوت مجالس علماء ومحدثين كبار من بينهم مجلس ابن عيينة من أجل أن يجلس عند الشافعي، حتى قال بعض أهل العلم: “حججت مع أحمد بن حنبل فنزلت في مكان واحد معه، فخرج باكرًا وخرجت بعده، فدرت المسجد فلم أجده في مجلس ابن عيينة ولا غيره، حتى وجدته جالسًا مع أعرابي. فقلت: يا أبا عبد الله! تركت ابن عيينة وجئت إلى هذا؟” فقال لي: “اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول. لو فاتك ابن عيينة – تأخذ حديث ابن عيينة من تلاميذ ابن عيينة – وإن فاتك عقل هذا أي: الشافعي – أخافك ألا تجده، ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى.” قلت: “من هذا؟” قال: “محمد بن إدريس الشافعي.”
وقال أحمد رحمه الله: “كان الفقه قفلاً على أهله، حتى فتحه الله بالشافعي.”
تلامذة الإمام الشافعي:
أخذ العلم عن الشافعي عدد كبير من التلاميذ، أبرزهم رابع أئمة المذاهب الفقهية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، أحمد بن حنبل، وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري.
كما أخذ عنه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، الذي لازمه منذ أن قدم مصر ووصف بأنه حافظ مذهب الشافعي، وهو الذي ألف الكتب التي عليها مدار المذهب الشافعي بعد كتب الإمام. كما تتلمذ على الشافعي علماء آخرون كالحارث المحاسبي أحد أعلام التصوف، والحارث بن سريج البغدادي.
شيوخ الإمام الشافعي:
شيوخ الإمام الشافعي في مكة:
أخذ العلم ببلده عن مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة، وداود بن عبد الرحمان العطار، وعمه محمد بن علي بن شافع، وهو ابن عم العباس جد الشافعي، وسفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وسعيد بن سالم، وفضيل بن عياض.
شيوخ الإمام الشافعي في المدينة:
ذهب إلى المدينة وهو ابن نيف وعشرين، فحمل عن مالك بن أنس (الموطأ) عرضه من حفظه، وحمل عن إبراهيم بن أبي يحيى فأكثر، وعبد العزيز الدراوردي، وعطاف بن خالد، وإسماعيل بن جعفر، وإبراهيم بن سعد وطبقتهم.
شيوخ الإمام الشافعي في اليمن وبغداد:
أخذ في اليمن عن مطرف بن مازن وهشام بن يوسف القاضي، وطائفة. وفي بغداد عن محمد بن الحسن، فقيه العراق، لازمه وحمل عنه وقر بعير، وعن إسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي.
مؤلفات الإمام الشافعي:
صنف التصانيف ودون العلم ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وصنف في أصول الفقه وفروعه. ومن تصانيفه:
كتاب الرسالة القديمة (كتبه في بغداد) وضع به الأساس لعلم أصول الفقه.
كتاب الأم، وهو موسوعة فقهية كبيرة تمثل خلاصة مذهب الإمام الشافعي.
كتاب الرسالة الجديدة (كتبه في مصر).
كتاب جمع العلم.
كتاب إبطال الاستحسان.
كتاب أحكام القرآن.
كتاب بيان فرض الله عز وجل.
كتاب صفة الأمر والنهي.
وغيرهم من المصنفات.
محنة الشافعي مع الخليفة هارون الرشيد:
أُمتحن الشافعي على يد هارون الرشيد ولكنه خرج من محنته بما فضله الله من علم ودين، فقد جيء به من اليمن إلى بغداد ويداه مغلولتان إلى عنقه، وقد كان والي اليمن قد وشى به إلى هارون الرشيد بأنه يريد الخروج على خلافته، وكان والي اليمن ظالمًا غشومًا، وقد ارتفع شأن الإمام الشافعي فكان يمنع الظلم وينهى ويأمر بالمعروف، فوشي به وذكر أن كان معه تسعة، فلما وصل إلى بغداد سجن قبل أن يدخل على الخليفة، ولما دخل على هارون، قال له هارون: “ما بلغني عنك؟” وتبين أن الدعوى ملفقة ولا صحة لها، وأن الإمام الشافعي من أهل العلم. فقال: “محمد بن الحسن يشهد لي بذلك.” فقال: “نعم، إنه من أهل العلم والفضل وله شأن.” ثم سأله هارون بعد ذلك عن مسائل العلم فيما يتعلق بالكتاب والسنة والتاريخ وغير ذلك، فأجاب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه. فأُعجب هارون به على أئمتنا جميعًا رحمة الله ورضوانه، فقال له هارون: “إنك ملأت صدري وعظمت في عيني، فعظني.” فوعظه بعد ذلك وأمر له بخمسمائة دينار، ثم زاده خمسمائة أخرى، فحمل معه ألف دينار وفرقها في بغداد، وما أخذ منها دينارًا واحدًا رضي الله عنه وأرضاه.
وصايا الإمام الشافعي:
أنفع الذخائر التقوى، وأضرها العدوان.
العاقل من عقله عقله عن كل مذموم.
ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته.
اجتناب المعاصي، وترك ما لا يعنيك، ينور القلب. عليك بالخلوة، وقلة الأكل، وإياك ومخالطة السفهاء ومن لا ينصفك. إذا تكلمت فيما لا يعنيك، ملكتك الكلمة ولم تملكها.
وفاة الإمام الشافعي رحمه الله عليه :
توفي الإمام الشافعي رحمه الله بعد عناء طويل مع المرض، حيث كتب فيه وأنجز رغم سقمه. وعن يونس بن عبد الأعلى قال: “ما رأيت أحدًا لقي من السقم ما لقي الشافعي.” فدخلت عليه يومًا فقال لي: “يا أبا موسى! اقرأ علي ما بعد العشرين والمائة من آل عمران: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] إلى آخر السورة، وأخف القراءة، ولا تثقل.”(2)
فقرأت عليه، فلما أردت القيام قال: “لا تغفل عني، فإني مكروب.”
حدثنا المزني قال: “دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت: يا أبا عبد الله، كيف أصبحت؟” فرفع رأسه، وقال: “أصبحت من الدنيا راحلًا، ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله واردا، ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها.”
ثم بكى وأنشأ
يقول:
وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي
جَعَلتُ الرَّجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّما
تَعاظَمَني ذَنبي فَلَمّا قَرَنتُهُ
بِعَفوِكَ رَبّي كانَ عَفوُكَ أَعظَما
مات الإمام الشافعي يوم الخميس، وانصرفنا من جنازته ليلة الجمعة، فرأينا هلال شعبان سنة أربع ومئتين، وله نيف وخمسون سنة.(3)
_____ الكاتبة: مارية الزروالي _____
المصادر:
1 “سير أعلام النبلاء” للإمام شمس الدين الذهبي، ص10 الجزء العاشر مؤسسة الرسالة،بيروت.
2 “آداب الشافعي” ص 76/77.
3. “مناقب” البيهقي، ص 298/297.