تحقيق السلام النفسي في رمضان

تحقيق السلام النفسي في رمضان

رمضان شهر تتنزل فيه الرحمة على قلوب المؤمنين، فتنشرح فيه الصدور، ويتقرب العبد إلى الله فيرتقي في سلم العبادات، حتى يكاد يجد جزاء القرب سرورا في قلبه، والمعروف أن الذنوب والمعاصي والبعد عن الله من أسباب نزول الهم والغم على قلب المسلم، فتجد لذة القرب في الروح في هذا الشهر المبارك على خلاف الشهور كلها، ونتأمل شعور الانشراح في قول الله تعالى:
{أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه} [سورة الزمر22].

فانشراح الصدر هو نور إلهي وسكينة ينزلها الله بقلب المسلم، والقلب يضيق حين ينأى عن خالقه، وجنة المرء المؤمن في صدره، فالخلوة والتعبد وكثرة السجود و تلاوة القرآن، من أسباب تحقيق السلام النفسي في رمضان للمسلم، وقد خص الله هذا الشهر بالعبادة فتجد الملتزم يكثر من الطاعات، وتجد العاصي يسارع بتوبته وعودته إلى الله، وتتجدد العزائم وتشحذ الهمم، فهو شهر يبتهج فيه المؤمنين.

أعظم الليالي في رمضان:

الصيام هو ركن من أركان الإسلام وشعيرة يقصد فيها التعبد لله، وهو الامتناع عن الأكل من طلوع الشمس إلى غروبها.
وهو شهر عظيم عند الله ففيه نزل القرآن الكريم إلى سماء الدنيا، قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.
وفيه أعظم الليالي التي تكون في نهايته وهي ليلة السابع والعشرون، ويتحراها المرء في العشر الأواخر من الشهر، فيضاعف ما ضاع منه طوال السنة، ويتوجه فيها إلى الله بالدعاء فهي ليلة عظيمة، وسميت بليلة القدر لمكانتها، يقول الله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر}، وما أدراك بمعنى أن لها شأن عظيم لا يدركه ولا يفقهه الخلق، وهي خير من ألف شهر، وفيها يقدر الله ما شاء في أقدار عباده، وتتغير فيها الأقدار بالإلحاح في الدعاء وموافقة نفس الليلة.

وهي ليلة أخبرنا الله بنزول الملائكة فيها فقال تعالى: {تتنزل فيها الملائكة والروح}، والروح عند جمهور المفسرين هو جبريل عليه السلام، وعن ابن عباس قال “تلك الليلة تصفد مردة الشياطين وتغل عفاريت الجن، وتفتح فيها أبواب السماء كلها ويقبل الله فيها توبة كل تائب”.
وقال الشعبي “هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من غياب الشمس حتى طلوع الفجر”، وهذه فيها فضائل كثيرة لمن أدركها، وتزود لها، فيطلع فجر اليوم الآخر عليه وقد غفر الله له وسمع أماني عباده فيها فحققها، وهذا من أسباب استعادة التوازن النفسي، والاستقرار الروحي، وليالي رمضان يخرج منها المؤمن بروح راضية مبتهجة، والفائز من دخلها مليئا بالنقص فخرج منها وقد رمم نقصه وابتهل لخالقه وطلب المغفرة منه، فمن يغفر الذنوب سواه، وجدد نيته وعزم على الصدق والإخلاص.

النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان:

كان النبي في شهر رمضان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان، وكان يقيم ليله وينام ويجتهد في رمضان، حتى إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان كان يشد الهمة فيضاعف العبادة ويجتهد لقرب رحيل الشهر الكريم، عن عائشة رضي الله عنها قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره).
وكان يعتكف صلى الله عليه وسلم أول عشر في رمضان ويعتكف في العشر الأواخر، وكان يخرج للغزوات كغزوة بدر وغزوة الفتح، والنبي صلى الله عليه وسلم خير مثال يقتدى به في الأيام المباركة،
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما).

وقد كان النبي يخبر الناس بمن أراد الاعتكاف، لتحري ليلة القدر والدعاء وطلب المغفرة، ولزوم الذكر والعبادة والصلاة لما فيها من بالغ الأجر، فمن أدرك رمضان في كل سنة، واجتهد وأناب إلى الله أدرك خيرا كثيرا ومغفرة من الله.

القرآن مصدر الاستقرار النفسي في رمضان:

القرآن هو أحد أسباب السعادة والاستقرار النفسي في رمضان، وقد كان السلف ينقطعون إلى قراءة القرآن، فيكون الليل مخصصا لتدبر آيات الله عز وجل، قال الله تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا}، والناشئة عند المفسرين هي ما بعد صلاة العشاء حتى نهاية الليل، ففيها يجتمع إدراك القلب والعقل، وفيها صفاء الذهن والفؤاد، وفي الليل ينزل ربنا لسماء الدنيا فيستجيب لمن دعاه، ويغفر لمن استغفره وناجاه، والليل للعبادين الزاهدين في الدنيا هو ركن آمن من ضجيج الحياة وضوضائها، وذكر أن سفيان الثوري كان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.

فالقرآن في رمضان هو نور للقلب، يتدبر فيه المسلم ويتخشع قلبه ليلا، ويتقلب في نعيم معانيه، فينال به أجرا عظيما ويطمئن به قلبه، وقرآن الليل شفيع لصاحبه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال : فيشفعان).
فيجتمع في رمضان الصيام والقيام وقراءة القرآن، فيطهر الله بهم نفس المؤمن وقلبه ويجعلهما له من أسباب المغفرة في الدنيا وشفعاء في الآخرة.

روحانية شهر رمضان وأثرها على النفس:

على المؤمن أن يستغل رمضان أفضل استغلال، فيطهر قلبه من الغل والحسد ومن الضغائن، ويعفو ويسامح، فالمسلم يحب عفو الله، وعليه أن يتحلى بالصفات الحسنة في الشهر المبارك، ويستغل الأيام القليلة فيه للخير، ففيه تعتق الرقاب وفيه تنزل المغفرة من الله، فعلى المرء أن يكون طاهر القلب، متعاونا مع مجتمعه، فيدرب نفسه على البذل والعطاء، وعلى الرضى بكل أحواله، ويصل رحمه ويعفو عن من ظلمه، فيكون قلبه ميالا للخير، ويستعد بتجديد نيته، ويكثر من الاستغفار والتكبير والحمد لله عز وجل، ويلتزم بالأذكار والدعاء وتعمير بيوت الله، ويبتعد عن المعاصي بكل أنواعها.

فالإفطار من الصيام لا يعني انتهاء اليوم والقيام بالواجب، ولكن هو بداية ليلة مباركة ممتدة من صلاة التراويح حتى صلاة الفجر.

ويتحرى المسلم في رمضان أن تكون أعماله طول نهاره مرتبطة بالسنة، فالصيام يورث تقوى القلب وتقوى الله، فلا يصوم كرها وهو يشعر بالمشقة، ولكن وهو يستشعر العبادة العظيمة التي يقوم بها ويطلب أن ينال أجرها من الله، ورمضان هو مدرسة لتدريب النفس وتقويم اعوجاجها، فيعلمها الصبر ويربيها على الإحتساب وعلى الخير، ويعدل من سلوكها، وهكذا يجد المؤمن أن نفسه قد هذبت في رمضان، وقلبه اطمئن، فالتغيير يبدأ من النفس والروح.

إذن هو فرصة لإصلاح النفس، وتحقيق السلام النفسي في رمضان، وهو شهر الرحمة يجتهد فيه المسلم ليخرج بروح راضية مطمئنة ومستقرة، وقلب منشرح لقربه من الله تعالى، فيغير الله من نفسه ومن حاله، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما في أنفسهم، فالنفس الصالحة هي أساس التغيير والتجديد، ورضى الله هو أول أسباب الهداية والصلاح في الحياة.

الكاتبة: مارية الزروالي

المصادر:
ـــــــــــــــ
1ـ رواه الإمام أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3882.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد